صحيفة "الحقيقة" تكتب:
ليس سرًا أن كل إجراء تقريبًا في العالم الرقمي اليوم، بدءًا من النشر على الشبكات الاجتماعية، والتسوق عبر الإنترنت، والمعاملات المصرفية، إلى استخدام الخدمات الصحية أو التعليمية، يكون مصحوبًا بمعالجة البيانات الشخصية وبصمة رقمية. لا تتضمن هذه البيانات الاسم أو تاريخ الميلاد أو العنوان أو رقم الهاتف فحسب، بل تتضمن أيضًا معلومات أكثر حساسية: الحالة الصحية والبيانات المالية والاتصالات الاجتماعية والتفضيلات الفكرية والموقع والمعلومات البيومترية وحتى السلوك عبر الإنترنت وخصائص النشاط العقلي.
هذه الكميات المثيرة للإعجاب، والتي غالبًا ما يتم جمعها من قبل مصادر غير معروفة ويتم مشاركتها بين كيانات مختلفة، تخلق فرصًا غير محدودة للمراقبة والاستغلال من قبل كل من الشركات والحكومة، وأحيانًا مجرمي الإنترنت والمجموعات الخبيثة الأخرى. وفي ظل هذه الظروف، تصبح حماية البيانات الشخصية ليس حقًا فحسب، بل واجبًا أيضًا.
يجب أن يكون الفرد قادرًا على التحكم بشكل مستقل في المسار الرقمي لحياته، وتحديد من يمكنه استخدام بياناته ولأي غرض وإلى متى. كقاعدة عامة، يقلل معظم الجمهور بشكل كبير من خطورة هذه المشكلة، وغالبًا ما لا يعرفون نوع البيانات التي يتم جمعها، وكيفية معالجتها، وما هي المخاطر التي تنشأ في حالة تسريبها أو إساءة استخدامها أو استخدامها بشكل غير قانوني.
في ظروف التقدم التكنولوجي، تواجه حماية البيانات عددا من التحديات الهيكلية. أولا، أصبح جمع البيانات واستخدامها أحد المحركات الرئيسية للتنمية الاقتصادية.
يسعى عمالقة تكنولوجيا المعلومات العالميون والشبكات الاجتماعية والبنوك وشركات التأمين ومؤسسات الرعاية الصحية للحصول على صورة أكثر تفصيلاً وشمولاً لعملائهم أو مستخدميهم أو مواطنيهم، ويقدمون خدمات شخصية وإعلانات وعروض مربحة بناءً على ذلك.
ومع ذلك، فإن مثل هذا الاستغلال للبيانات غالبًا ما يتجاوز خطوط السيطرة، مما يؤدي إلى مراقبة لا مفر منها لحياة الفرد الشخصية، والتلاعب النفسي، وحتى سرقة الهوية أو الخسائر المالية.
على الرغم من أن جمع البيانات يتم تقديمه في كثير من الأحيان كوسيلة فعالة لضمان الأمن القومي أو منع الجريمة أو الصحة العامة أو المساعدة الاجتماعية، إلا أنه بدون حدود قانونية وأخلاقية واضحة يمكن أن يؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاك الخصوصية وتقييد الحريات.
في عالم التكنولوجيا اليوم، عندما يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحليل السلوك الفردي والتنبؤ بالتصرفات، فإن إساءة استخدام البيانات من قِبَل المؤسسات الإدارية أو الخاصة أصبحت بالفعل مشكلة عالمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تراكم وتحليل كميات كبيرة من البيانات في أيدي الدول يمكن أن يتحول إلى أداة للسيطرة الاجتماعية.
وبناء على ذلك، يمكن استخدام البيانات الشخصية ضد الأشخاص أنفسهم، خاصة عندما يكونون في المعارضة. وهذا هو بالضبط الوضع الذي نعيشه في أرمينيا اليوم، حيث يتم استهداف ممثلي المعارضة من قبل السلطات بممارسات مماثلة. ويلعب العامل الدولي أيضًا دورًا رئيسيًا في حماية البيانات الشخصية.
تتبنى الدول المختلفة معايير وأساليب مختلفة لحماية البيانات الشخصية، بدءًا من لوائح الاتحاد الأوروبي الصارمة والمفصلة للغاية إلى البلدان التي تكون فيها أنظمة حماية البيانات إما غائبة أو معيبة بشدة.
وفي هذا الصدد، فإن البلدان الصغيرة معرضة للخطر بشكل خاص، حيث النظام القانوني غير مكتمل، والوعي العام منخفض، وهياكل الدولة غالبا ما تفشل في مواكبة التقدم التكنولوجي. في حالة أرمينيا، وعلى الرغم من بعض المبادرات التشريعية، هناك عدد من الثغرات في مجال حماية البيانات الشخصية، سواء في البعد القانوني أو من حيث الوعي العام والوسائل التقنية.
ونتيجة لذلك، فإن خطر تسرب البيانات، فضلا عن إساءة استخدام البيانات من قبل المنظمات الدولية وعمالقة التكنولوجيا، أصبح أكثر من حقيقي. ومن ناحية أخرى، يضاف إلى ذلك خطر الهجمات الإلكترونية، والتي يمكن من خلالها استغلال البيانات الشخصية للمواطنين.
ويتطلب حل هذه المشاكل اتباع نهج منظم يشمل الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني وكل فرد. أولاً، من الضروري التحديث المستمر وتطبيق تشريعات حماية البيانات الشخصية بشكل فعال، مما يضمن نشاط هيئة إشرافية مستقلة حقًا، ويحدد بدقة إجراءات جمع البيانات ومعالجتها وتخزينها ونقلها، فضلاً عن توفير المسؤولية الصارمة عن الانتهاكات. هناك اتجاه مهم آخر وهو رفع مستوى الوعي العام. يجب أن يفهم المواطنون أن كل بيانات يقدمونها أو ينشرونها يمكن استخدامها لأغراض مختلفة، وأن لديهم الحق في معرفة من ولأي غرض وكيف تتم معالجة بياناتهم، وكذلك طلب إزالة البيانات أو تصحيحها أو تقييدها.
وبطبيعة الحال، فإن مهام الدولة والقطاع الخاص، بما في ذلك البنوك وشركات التأمين وغيرها من الخدمات، هائلة، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا أن الفرد نفسه هو المسؤول عن أمن بياناته الخاصة.
لذلك، من الضروري الانتباه إلى نوع المعلومات المنشورة، والمواقع الإلكترونية والخدمات المذكورة، وما إذا كانت هذه المنصات موثوقة، وما هي كلمات المرور المستخدمة، وما إذا كانت أدوات المصادقة ثنائية الطبقة نشطة. ومن الضروري أن ندرك أن أمن البيانات اليوم لا يقتصر على الوسائل التقنية فحسب، بل يتعلق أيضًا بالسلوك الشخصي والوعي الذاتي. وفي هذا السياق، من المهم أن نفهم أن حماية البيانات الشخصية هي ضرورة ملحة للمجتمع، والتي تحدد حدود الهوية والحرية والكرامة ليس فقط للفرد، ولكن أيضًا للأمة بأكملها.
يمكن تحويل كل جزء من البيانات غير المحمية إلى سلاح محتمل يستخدم لأغراض اقتصادية وسياسية وإجرامية. وفي هذا السياق، فإن إهمال مشكلة حماية البيانات يمكن أن يؤدي إلى عواقب لا رجعة فيها، بدءًا من انتهاك حقوق المواطنين الأفراد وحتى تهديد سيادة الدولة.
آرثر كارابيتيان








